(إرحل) .. سحر الكلمة


(إرحل) .. سحر الكلمة
د.سالم عبد الرب السلفي
تبدو كلمة (إرحل) كتعويذة، تَصْرِف بها الشعوبُ الثائرةُ حكامَها الجاثمين على صدورهم سنين طويلة، وهي المعادل الثوري لكلمة (انصرِفْ) المستعملة في التراث الشعبي العربي لصرف الجن!
وأمام سحر هذه الكلمة وقوة فاعليتها في طرد مَرَدَة الحكام العرب سنتوقف عند مقاطعها وأصواتها وحروفها، نستجلي مكامن قوَّتِها ومواطنَ سحرِها.
من حيث المقاطع تتكون كلمة (إرحل) من مقطعين: (إرْ) و(حلْ)، فإذا عزلنا المقطع الأول ونظرنا في دلالته وجدنا – وهذا أمر عجيب – أن (الأرَّ) في اللغة يعني السَّوْق والطَّرْد، وإذا عزلنا المقطع الثاني ونظرنا في دلالته وجدنا – وهذا أمر عجيب آخر – أن (الحل) يعني الخروج من المشكلة، فإذا أردنا أن ننتج دلالة داخلية لكلمة (إرحل) انطلاقا من دلالة مقطعيها وجدناها تعني (الطرد هو الحل)! وهذا من التوافقات العجيبة التي تكشف عن سحر هذه الكلمة وطاقتها الدلالية الكبيرة.
وعندما ننظر في مكونات المقطعين نجد أن كل مقطع يتكون من صوتين حلقي (إ، ح) وذلقي (ر، ل)، بحيث يبدو المقطع الثاني تكرارا للأول، والتكرار في حد ذاته عمل ذو طاقة سحرية.
ومن حيث الأصوات نجد أن كلمة (إرحل) تتكون من أربعة أصوات، اثنان منها يخرجان من الحلق، واثنان يخرجان من اللسان، ولا وجود لأصوات تخرج من المخرج الثالث وهو الشفتان (أقصد أصوات الفاء والباء والميم والواو)، وهذا يشير إلى طاقة الانعتاق والحرية الموجودة في هذه الكلمة؛ لأن الأصوات التي تخرج من الشفتين تتصل عادة بمعاني القمع والكبت، ولا مجال لهذه المعاني في هذه الحال الثورية التي تنطلق فيها الأفواه دون موانع.
وعندما نفصِّل في أصوات الكلمة صوتا صوتا نجد أننا في بداية الكلمة أمام الصوت الأول في الإنسانية والأبجدية وهو صوت الهمزة، وهو ما يعني العودة إلى الأصل والمبتدأ الذي ولد فيه الناس أحرارا، فالهمزة هي صوت صرخة الحرية الأولى التي يصرخها الطفل وهو يخرج من سجن الرحم، وهي الصوت الأول في اسم أبي البشر آدم، فكيف لا يكون الابتداء بها ومنها!
إن صوت الهمزة هو أقوى الأصوات وأبعدها غورا في جسد الإنسان؛ لأنها الصوت الوحيد الذي يخرج من الصدر، ولذلك فهو الصوت القادر على بث مكنونات ما تخفي الصدور من أوجاع العقود الثلاثة. وهي أيضا تخرج من أقصى الحلق لتمر على كامل الجهاز الصوتي تستثيره وتستفزه، وهي القادرة على إيصال الرسالة إلى المتلقي بما فيها من طاقة الانفجار الذي تصل شظاياه إلى آذان المتلقين بكل وضوح.
وفي صوت الهمزة في الفعل (إرحل) دلالة على الأمر؛ لأن الفرق بين الفعل (رَحَل) وأمره (ارحل) هو همزة الوصل، التي حولتها الجماهير إلى همزة قطع نطقا وكتابة لدلالة سنشير إليها لاحقا.
وأما الراء فهي صوت تكراري، والتكرار هو الوسيلة المفضلة في عملية السحر، ومن الواضح أن جماهير الثائرين يُظهرون هذه الصفة التكرارية بشكل واضح وهم يرددون الكلمة، ويعكسون ذلك في الكتابة (اررررررررحل). وتزداد طاقة التكرار – ومن ثم طاقة السحر – في هذا الصوت بتكرار الكلمة نفسها، بمعنى أن الراء تتكرر في الكلمة الواحدة (إرحل)، ثم تتكرر عشرات المرات بتكرار كلمة (إرحل): (إرحل، إرحل، إرحل، إرحل، ...)، وهو ما يمكن تسميته بتكرار التكرار.
ومن جهة أخرى تصنف الراء صوتيا بأنها صوت ذِلْقي يخرج من ذلق اللسان وهو طرفها الحاد، وهو ما يوحي بأن صوت الراء عبارة عن وخزة أو وخزات مكررة تنبه السامع وتحاول الوصول إلى ضميره لتخزه أيضا.
وأما الحاء فهي صوت حلقي احتكاكي، وهي أخت الهمزة إلا أنها أخف منها، وكأننا عندما نصل إلى المقطع الثاني (حل) تبدأ الأمور بالانفراج والتحلحل، فخفَّت نبرة الصوت من الهمزة إلى الحاء ومن الراء إلى اللام. غير أن الحاء لا تعدم القوة من كونها صوتا حلقيا، كما أن صفة الاحتكاك تعطي شعورا بأنها قادرة على الوصول والاحتكاك بآذان المتلقين وضمائرهم.
وأما اللام فهي صوت ذلقي مرقَّق، تقف عنده الكلمة. وهو صوت ساكن من جهتي الوقوف عليه وبنائه للأمر. ولا يوجد في العربية من بين اللامات سوى لام واحدة مبنية على السكون هي لام الأمر، مما يعني أن من بين المعاني التي تؤديها اللام الساكنة الدلالةَ على الأمر وتوكيده، وبذلك يكون فعل الأمر (إرحل) قد بدأ بصوت الأمر (الهمزة) وينتهي بصوت الأمر (اللام الساكنة)، وعندما يكون الشعب هو الآمر فلا بد أن يستجيب البشر!
ومن حيث الحروف – وأقصد بها الصورة الكتابية للأصوات – سنجد أنفسنا أمام كلمة مسنونة حادة الأطراف، حيث تبدو أحرف الكلمة وكأنها سيوف ورماح، وإن من الكلام ما هو كالسيف قطعا وكالرمح طعنا. فانظر إلى الألف مع الهمزة السفلية وهما تبدوان كسيف ذي قبضة، وانظر إلى الراء وهي تبدو كسيف عربي منحن، ثم انظر إلى الحاء وهي تبدو كحربة أو سنِّ رمحٍ يوشك أن يطعن .. يالهذا التناغم العجيب!
ومن جهة الكتابة فإن الإصرار على كتابة همزةٍ تحت الألف هو إصرار على أنها همزة قطع لا وصل، مع أنها أمر لفعل ثلاثي (رَحَلَ)، وأمر الفعل الثلاثي – كما هو معلوم في قواعد الإملاء –همزته وصل، تكتب ألفا من غير همزة هكذا: ارحل، وكتابة الهمزة يعد خطأ إملائيا. وإني أسجل هنا اعترافا بأني لطالما شدَّدت على طلابي بألا يكتبوا همزةً أول أمر الفعل الثلاثي المبدوء بهمزة وصل، وكنت أحاسبهم على كتابتها حسابا شديدا، ولكني اليوم أجد قواعد الإملاء أمام هذه الكلمة العظيمة (إرحل) صغيرةً حقيرة؛ لأن الفعل الذي تقوم به هذه الكلمة - بهمزة القطع - أقوى وأنبل من قواعد الإملاء، وهو أجل من أن نرجمها بالخطأ.
ومن جهة أخرى، يؤدي قطع همزة الوصل دلالة عظيمة ومهمة في حياة الثورة الراهنة، تتمثل في إعلان القطيعة مع النظام القائم المتهالك الفاسد منذ الحرف الأول، ورفض ربط أية خطوط تواصل معه.
في الأخير، لقد استُبدلت بهذه الكلمة كلماتٌ أخرى من مرادفاتها ومصاحباتها ومقابلاتها غير العربية، لكن يظل للفعل (إرحل) سحر لا نجده في جميع الكلمات الأخرى مهما بلغت كثرتها، وهذا السحر يجد تفسيره في كثرة دورانها مع عدم ملل الناس منها، وبكونها استطاعت أن تخلع رئيسين من كرسيهما، وهي لا تزال تحفر بسيوفها ورماحها في الإسمنت المسلح المصبوب على آذان رؤساء آخرين، إما أن تَنْقُبَه أو تَظْهَرَ عليه أو يتدخل القدر فيجعله دَكَّاء، وإذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.

هناك تعليق واحد: