النداء وإعادة إنتاج الحياة


النداء وإعادة إنتاج الحياة
(قراءة في شعر الغربة عند لطفي)
د. سالم عبد الرب السلفي
أغرم الشاعر لطفي جعفر أمان بصيغة النداء، حتى إنّ بنية بعض قصائد الغربة عنده قامت على (النداء) كما في قصيدة (فوزيّة) التي سنخضعها للتحليل في الأسطر التالية. وربَّما يعود ذلك إلى رهافة حسِّ هذا الشاعر ورقَّته وسرعة إحساسه بفقد الأحباب. وتُظهر الأسطر الآتية كيف أنّ الفقد جاء تاليًا مباشرة للفراق والسفر:
          فلمّا افترقنا
          وسافرتُ وحدي
          فقدتُ ربيعَ ضيائي الخصيب
          فقدتُكِ أنتِ .. وأيّامَ كُنَّا
ومن هنا جاء حرص الشاعر على إحضار الآخر/الحبيب من خلال تكثيف حضور صيغة النداء. وفي المقابل يسود الصمت والموت حين تغيب هذه الصيغة من النصِّ، يقول لطفي في قصيدة (غريب):
   العراءُ الرهيبُ يوجمُ من خلفي جديبًا .. مكفِّنًا  آثارَه
             وسنا ناظريَّ يرصدُه الأفقُ بعيدًا.. شدَّ المحالُ إزارَه
             أأنا الحيُّ .. والدُّنا كلُّها حولي ضريحٌ  قبابُه منهارَه
يقول لطفي في قصيدة (فوزيّة) التي يهديها قائلاً: "إليك .. من السودان شتاء 1961م":
    1.    فوزيّة
    2.    يا أحلى الأسماءِ السحريّة
    3.    يا نغمًا يعبقُ في قيثارةِ حوريّة
    4.    يا أغلى لؤلؤةٍ نبضتْ إنسانيّة
    5.    يا دفقةَ ربِّي تملؤني روحانيّة

    6.     يا ثروةَ حبِّي الأبديّة

    7.     يا فوزيّة

    8.     نجواكِ ترفُّ على صلواتي القلبيّة
    9.     فأراك .. أراك بكلِّ مفاتنِك الحيّة
    10.   بشروقِ البسمةِ فجريّة
    11.   برنينِ الضحكةِ ذهبيّة
    12.   برياضِ حديثِك .. أَعْذَبُهُ
    13.   (عينٌ) تتكسَّرُ (ألِفيّة)
    14.   بنقوشِ المنديلِ الورديّة
    15.   تسخو بكنوزٍ عطريّة
    16.   بجنانِ طيوبٍ (لَحْجِيّة)
     17.   و(الدِّرْع) ولمعته البنيّة
    18.   كمويجاتِ النيل ِالخمريّة

                   19.   يا فوزيّة

    20.   لا تهدأ أشواقي الناريّة
    21.   فالنجمُ يقطِّرُ سهدَ الليلِ بعينيَّه
    22.   والصمتُ رياحٌ من أحزانٍ ثوريّة
    23.   والشوقُ نوافيرُ النيرانِ بجنبيَّه

    24.   يا فوزيّة

    25.   سنواتٌ أربعُ ناضرةٌ
    26.   بجنانِ الحبِّ القدسيّة
    27.   مازالت - عبرَ ملاعبِها -
    28.   تخضلُّ مروجُ أمانيَّه
    29.   وتديرُ الذكرى في خَلَدي
    30.   آلافًا من صورٍ حيّة
    31.   فأمدُّ الشوقَ على لهفٍ
    32.   للقائك أنتِ وطفليَّه
    33.   يا فوزيّة!..
تبدأ القصيدة بنداء "فوزيّة" من غير واسطة النداء للتعبير عن قرب الذات من الموضوع قربًا تختفي فيه المسافات وتنتفي معه الغربة. وحذفُ أداة النداء مكَّن (اسم العلم) من الانفراد بالسطر الشعريِّ في مفتتح القصيدة ليكون هو نقطة التفجير الشعريِّ ومركزَ الجاذبيّة في النصّ، وهو ما يؤيِّده اختيار الاسم نفسه عنوانًا للقصيدة.
ويبدو أنّ الشاعر تلذَّذ بهذا الحضور المطلق للآخر/الحبيب، فأراد أن يحافظ عليه، وكانت أداته الشعريّة لذلك هي (التكرار)، وبدا الشاعر وهو يوظِّف هذا الأسلوب وكأنّه يمارس ضربًا من السحر الشعريِّ يتناسب مع سحر الاسم (السطر الثاني) ليتمكَّن من إحضار الآخر حضورًا يصل في مراحله الأخيرة إلى الحضور العيانيِّ الحيّ (السطر التاسع)؛ حيث تؤكِّد الذات هذا الحضورَ بتكرار فعل الرؤية واستخدام النعت "الحيّة" الذي جاء ليدلَّ على أنّ إحضار الآخر لم يكن مجرَّد تهويم في الخيال أو صورة ذهنيّة، وإنّما هو حضور كلِّيٌّ يشمل الروح والجسد، فإذا كانت الأسطر الأولى قد قامت بتحضير الروح فإنّنا منذ هذا السطر نلمس حضور الجسد بكلِّ إثارته الحسِّية (البسمة، الضحكة، الحديث، المنديل، الطيوب، الدرع).
ويأتي نداء "فوزيّة" مرَّة ثانية لتثبيت الحضور وتجديده، لكن هذه المرّة تتحوَّل الذات إلى تصوير معاناتها للشوق والأرق في الغربة في أسطر قليلة، ولمَّا أحسَّت أنّها ستنغمس في عالم الغربة والمعاناة في الزمن الحاضر أحضرت الآخر/الحبيب مجلِّي الكروب من خلال ندائه "يا فوزيّة" حفاظًا على لحظة (الحضرة) التي لا تعوَّض، واتجهت هذه المرّة إلى الماضي النضير الذي يتجاوز أثرُه اللحظةَ الراهنة إلى إخصاب المستقبل "الأمانيّ"، ليكون الزمنُ الماضي بذلك هو الزمنَ المسيطر والإيجابيَّ القادرَ على تحويل الحاضر والمستقبل إلى مروج خضراء.
ولأنّ الذكرى تأتي هنا مدعَّمة بأسلوب النداء فإنّها تعرض "آلافًا من صور حيّة" وليست صورًا جامدة. وهذه الحيويّة في الصورة القادمة من الزمن الماضي تستفزُّ عاطفة الذات المغتربة فتمدُّ شوقها وكأنّه جسر لتحقيق اللقاء المنتظر الذي يقضي نهائيًّا على غربتها. وبالنداء الأخير "يا فوزيّة" تكون (فوزيّة) هي البدء والختام، هي العنوان والكلام. وعلى الرغم من أنّ الشاعر أراد أن يقهر غربته بلقاء زوجه وطفليه فإنّه لا يريد أن يلقاهما إلا في الوطن "فأمدُّ الشوق على لهف/ للقائك" المكان الذي يجمع الأهل والأحباب والذكريات الجميلة.
إنّ قوَّة السحر قوةُ تسلُّط، ولمَّا كان اسم (فوزيّة) اسمًا سحريًّا عند الشاعر تسلَّط على النصِّ فتردَّد خمس مرّات في مواضع أساسيَّة كمستهلِّ القصيدة وختامها، وكانت له دومًا خاصِّية الانفراد بالسطر الشعريّ، تنزيهًا له من الاختلاط بالكلام، ودلالةً على ألا شريك له في قلب الشاعر، وربَّما كان ذلك تعبيرًا عن غيرة شديدة. ثم تسلَّط اسم (فوزيّة) بأوصافه على الأسطر (2-6). ثم تسلَّط بقافيته (الياء المشدَّدة والهاء) على (28) سطرًا من مجموع (33) سطرًا. ثم تسلَّط باسميّته فغلب الاسمُ الفعلَ غلبة واضحة، فكانت نسبته من مجموع كلمات القصيدة البالغة (160) كلمة (64%) مقابل (13%) للفعل، مما يعني أنّ النصَّ كان ينزع إلى التجريد، وهو ما يعني أنّ الحياة التي ينتجها النداء هي حياة مثاليّة مجرَّدة قائمة في مخيِّلة الشاعر.

هناك تعليق واحد: